ألقى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان كلمة في احتفال في الاونيسكو لمناسبة افتتاح "بيروت عاصمة عالمية للكتاب" لعام 2009، جاء فيها:
"سنة كاملة مباركة نبدأها مع الكتاب، في العاصمة العالمية للكتاب، بيروت. تسمية دولية تستحقها عاصمتنا، من إبداع اللبنانيين، وتنوع إنتاجهم، وصناعة الكتاب ونشره على مدى عقود طويلة. هي قلادة على صدر كل من كان الكتاب جليسه حتى عندما يعز السراج.
وهي مسؤوليتنا جميعا في ان يستمر هذا الوطن - الرسالة، منارة ثقافية، ومركز تفاعل حضاريا وانسانيا، ومثال التنوع ضمن الوحدة الوطنية.
فالتحية والتقدير لمنظمة اليونيسكو على اختيارها بيروت، والشكر ايضا لإتاحة الفرصة لنا لنضيف حبة الى عقد التميز في العالم، ونطلق طاقاتنا الفكرية الى جانب مدن ما يزال لها الباع الطويل في عالم الكتاب والقراءة.
لبنان، الذي حمل الابجدية الى العالم من شواطىء بيبلوس التي أعارت حروف اسمها للتوراة والمكتبات، ونشأت على أرضه أول مطبعة للشرق في دير مار قزحيا في القرن السادس عشر، وأسس اول مدرسة في العام 1789 في عين ورقة، تخرج منها المعلم بطرس البستاني، مرورا بعصر النهضة التي أثرت اللغة والأدب والفكر، يعود العالم اليه معترفا بما أنجز وحقق، وهو يطالبه بالمزيد لانه أهل لذلك.
اذا، هي الفرصة والتحدي، بهدف تعزيز المطالعة في لبنان، والالفة بين الفرد والكتاب.
انها المسؤولية الملحة لتطوير صناعة الكتاب ونشره، وسط الحداثة التي تجتاح وسائلها المرئية والمسموعة، بغثها وسمينها، اهتمام ابنائنا، لكي يظل للكتاب سحره الجاذب للقراء، ودوره الناقل اليهم، ثروات الفكر والعلم والأدب".
وأشار الى ان "مجلس الوزراء خص هذا الحدث بما يحتاجه من موازنة ودعم، لان نجاح هذه السنة هو مسؤولية كل لبنان، وجميع السلطات والقيادات وهيئات المجتمع المدني، التي نعول عليها كثيرا في كل ما يتعلق بالنهوض بالوطن". وأضاف: "ان دور الدولة من خلال وزارة الثقافة، يتركز على تنظيم الانشطة والبرامج في سنة الكتاب هذه، الا اننا نود ان نلمس تعاونا من الاهل والمدرسة ووسائل الاعلام وقطاع النشر المتنوع، والقطاعات الفكرية والإبداعية والاقتصادية التي تتكامل أدوارها في هذا الحدث الحيوي".
وتوجه الرئيس سليمان الى كل عائلة آملا في "ان تغرس حب القراءة في نفوس ابنائها، والى المرجعيات التربوية كي تجعل الكتاب قضية أبعد من الكتاب المدرسي والقراءات الإلزامية".
ودعا وسائل الاعلام "لجعل سنة بيروت عاصمة عالمية للكتاب سنة مميزة، والمبادرة الى اعتماد برامج جديدة تشد الناشئة الى الكتاب، والى نقابات الطباعة والنشر والتوزيع والتسويق، لاعتماد وسائل حديثة وتطوير صناعة الكتاب، بما يتناسب مع التطورات المتسارعة، وتشجيع المبدعين في كل مجالات الكتابة والتأليف، وإقامة المعارض المتخصصة لجذب المواطنين من كل الاهتمامات".
وإلى "هيئات المجتمع المدني، التي ما ترددت يوما امام مسؤولياتها"، طلب رئيس الجمهورية منها "مساعدة الادارات المحلية والبلدية، لتعميم وتعزيز المكتبات العامة في المدن والقرى، وإقامة الانشطة الثقافية التي تحقق التنافس الفكري وتكتشف المبدعين في كل مكان، وتحفز المواطنين على الإقبال".
وتابع: "أتوجه اليكم يا ابناءنا هنا وفي كل لبنان...
إقرأوا لكي تكونوا جديرين بالكرامة الانسانية، ومتمردين على الجهل والرتابة.
إقرأوا ما تشاؤون، هذا قراركم، فلا حرية تنمو وتعاش اذا كان هناك حجر ورقابة على الفكر والتعبير. ولكن مسؤوليتكم هي في ان تنموا كذلك ملكة التمييز، حتى لا يقودكم الفكر المتطرف خلف قراءاته المظلمة، فتحسنوا الاختيار.
انه القرار الذي لا يحدد فقط ماذا ستفعلون، بل يحدد كذلك ما سيدخل الى أعماقكم ويصنع الانسان الذي ستكونونه، تماما كما هي الحال في الخيارات الوطنية. فلكم فيها دور ومسؤولية من خلال ما تختارونه ليحمل صوتكم وهمومكم وطموحاتكم وتطلعاتكم الى غد مشرق تستحقونه".
اضاف: "اليوم تتكلل بيروت بتاج الكلمة. ونحن اذ ندرك مهابة هذه المسؤولية، لن نكتفي بتحويلها الى مجرد بريق احتفالي يغفل خصوبة التربة اللبنانية التي أثمرت فكرا نيرا وكتابا عظماء وإبداعا في الفن والعلوم والثقافة".
الهدف النهائي لكل الفعاليات المرافقة لهذه السنة، ولروزنامة الانشطة الغنية بالابداع والتنوع، هو خلق دينامية ثقافية تفاعلية تؤسس لارضية حاضنة لولادة الكتاب، وصناعته وانتشاره وصولا الى ترسيخ الشخصية الثقافية في نفوس ابنائنا.
انها السنة التي نأمل ان تحوّل نمط حياة الاجيال الحاضرة والاتية، فيصبح الكتاب فردا من الاسرة وصديق الوحدة ونبع المعرفة وأُفُقاً يومياً يَفتح أمام الكيان عوالم جديدة.
واذ يناضل الكتاب اليوم من اجل موقعه في وجه محيطات الانترنت التي تشكل خزان افكار البشرية وعلومها ويومياتها وثقافتها العامة، فإن ما يحقق فرادته هو كونه عصارة خبرة ومشروعا فكريا، ونسقا متماسكا يقود قارءه الى خلاصة كثيفة من المعارف والاداب في زمن قصير.
ولكم انتم حرية الانحياز، فلا تخلفوا في الاهمال من كان وسيكون الباني الاول للنفوس والحضارات".
وأردف سليمان: "اليوم الاول لسنة بيروت عاصمة عالمية للكتاب، نطلقه مليئا بالوعود وشغف الاعماق.
لبناننا يستحق ان يظل منارة، ووهج التاريخ والمستقبل على شاطىء المتوسط.
من هنا، طالبنا امام العالم ان يتحول لبنان مركزا دائما لحوار الثقافات والحضارات، في زمن حولت فيه العولمة الاقتصادية والاعلامية والتكنولوجية العالم، الى مساحة مفتوحة تمتزج فوقها الثقافات والعادات وانماط الحياة ولكنها افرزت في المقابل وبطريقة حادة ومناقضة، ميلا الى الانغلاق، وتطرف العصبيات ونمو رفض متبادل بين الاتنيات والاديان والجماعات المختلفة حتى داخل الوطن الواحد.
ولنا بالتأكيد نسيج خبرة حية في تلاقح الثقافات والمعتقدات والانتماءات الفكرية والعقائدية، ضمن كيان واحد نجح في ان يتحول نموذجا لتفاعل الانسانية بتناغم وايجابية.
ايها اللبنانيون على ارض لبنان وعلى كل ارض في بلدان الانتشار،
لبنان كتاب حضارة نمت منذ ستة الاف سنة، وانطلقت من ساحله الابجدية لتؤلف كتب العالم قاطبة. وبيروت هي ام الشرائع في مدرستها للحقوق. ويوم حسرت عن صدرها في جوف التراب، ظهرت في قلبها حضارات متتالية وعهود وحقب تشير الى صباحات في التاريخ افتتحت اياما من العز والمجد في تاريخ لبنان والشرق.
ولبنان كتاب المقاومة التي خطّت صفحاته بدماء الجنود والمقاومين الابطال، فتسطرت ملاحم عز من الجنوب الى بيروت والجبل ومن البقاع الى الشمال.
هو ايضا كتاب سلام وانفتاح.
هو اكثر من وطن، هو رسالة.
وفي الحوار والعيش الواحد تكتب عاصمتنا ومدننا وقرانا فصولا من كتب سماوية مقدسة قرآنا وانجيلا.
ولنا في الديموقراطية والحرية كتاب علينا ان نقرأ فيه بتمعن وشغف كل يوم، ونعتز به. جبالنا وسهولنا والشاطىء آيات رسمتها ريشة الخالق لوحات في كتاب الابداع لتمجيد الله".
وختم سليمان بالقول: "وطننا كتاب التاريخ والقيم، ودستورنا كتاب الوطن نلتزم به ونعلي من شأنه ونوطد امنه، ونرسخ سيادته واستقلاله ارضا لنا ولاولادنا واحفادنا يذودون عنها كلما ساورتها الفتن. فوجه لبنان اذا لم يكن مطبوعا بالثقافة والحوار والانسنة والولادة المتجددة، فهو الى زوال. واذا لم تكن الكلمة اساس البناء، فعبثا يتعب البناؤون.
مشروعنا ان نُكثر الزرع هذه السنة، من طيبات الفكر والقراءة وانوار المعرفة، عسى ان يكون الحصاد وفيرا، فيفيض من جيل الى جيل، لتظل بيروت عاصمة الحرف والكلمة وابجدية الابداع، يبني فيها الكتاب مقره الدائم حيث يحلو له ان يكون".